عبدالرحمن بن صالح العشماوي
حينما كنت أقرأ كلاماً نفيساً للشيخ (محمد متولي الشعراوي) عن معجزة
الله الكبرى في خلقه (القرآن الكريم) متحدثاً فيه عن جمال لغة القرآن وكماله
ا، وعن كونها أشرف اللغات وأعلاها، من حيث مبناها ومعناها، وعن كون
جميع الدراسات اللغوية الجادة قديماً وحديثاً، من مسلمين وغير مسلمين
عرباً وغير عرب، تؤكد أنها ذات قيمة خاصة من حيث قوتها وسلامتها،
وعوامل ثرائها الأصيل الذي يرفعها درجات عليا أمام معظم اللغات في
العالم، وعن كون القرآن الكريم الذي لا يماري أحدٌ من العقلاء العارفين
من أهله ومن غير أهله في بلاغته وبيانه، وعلمه الراسخ الثابت، وخبره
الصحيح، ونبئه الصادق، عن كون هذا القرآن قد أثبت شموخ هذه اللغة
وكمالها وجمالها، وشرف مكانتها حيث اختارها خالق الكون سبحانه
وتعالى لغةً وحيدةً خالدةً لحمل آيات هذا القرآن الكريم الذي جعله
الله معجزاً إعجازاً مستمراً إلى أن تقوم الساعة، لا يأتي زمان يتطور فيه
العلم، ويفرح فيه البشر باختراعاتهم المختلفة إلا ويؤكد تأكيداً علمياً
قاطعاً أن هذا العلم البشري قطرة صغيرة في بحر إعجاز القرآن العلمي
الكبير، وأن علماء البشر مهما بلغوا يظلون تلاميذ صغاراً في مدرسة علوم
القرآن الكريم.
أقول: حينما وصلت إلى هذه المعاني من خلال قراءتي لذلك الكلام
(الشعراوي) النفيس، شعرت بالإشفاق على كثيرٍ من المسلمين - عرباً
وغير عرب - حينما يقصر بهم الفهم، وتغشى عيونهم عن ضوء الفجر الصادق،
فيكتبون أو يتحدثون عن (لغتنا العربية) كتابةً أو حديثاً يدلُّ على
عدم تقدير لمكانتها، وعدم شعور بقيمتها، وعدم درايةٍ بجمالها وكمالها، وشرفها
على اللغات كلِّها، متضايقين - فيما يكتبون ويقولون - من هذه المكانة
الجليلة لهذه اللغة الكريمة، مطلقين على حبِّ أهلها لها، وتقدير غير أهلها
لعظمتها تحيُّزاً وتعصُّباً، وكأنهم حين ينالون من (اللغة الخالدة) بهذه الصورة
المقصودة أو غير المقصودة قد أتوا بما لم تستطعه الأوائل، مع أنهم يؤكدون
بما يكتبون ويقولون عدم إدراكهم لأبعاد هذا النَّيل من لغةٍ تؤكد الدراسات
أهميتها، ولو لم يكن في ذلك إلا ما يحدث من ضعف تواصل الأمة المسلمة،
وفقدان (حبل مهم) من حبال وحدتها وتلاحمها حينما تضعف لغتها لكفى.
نعم، شعرت بالإشفاق على عرب ومسلمين ينافسون عدَّوهم اليهودي
منافسةً معكوسة غريبة، فهم يشككون في فضل لغتهم على اللغات، ويطالبون
بصورة - غير لائقة - بآياتٍ صريحات من القرآن الكريم، أو نصوص
صحيحة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تثبت فضل اللغة
العربية على سائر اللغات، متكلفين في ذلك ما لا يلزم منه التكلف، على
طريقة (لزوم ما لا يلزم)، بينما يعلن عدوُّهم اليهودي عظمة لغته العبرية،
ويحرص عليها، ويرعاها، ويعدُّها من أهم وسائل بناء الدولة اليهودية
الغاشمة في فلسطين، ومن أهم عوامل جمع الشمل اليهودي، وتحقيق
التقارب والتواصل بينهم.
وحينما قرأت - كما قرأتم - تلك القرارات الغاشمة التي اتخذها المسؤولون
الأكراد في شمال العراق في حق اللغة العربية التي عني بها عناية فائقة فارسنا
جميعاً ابن الأكراد (صلاح الدين) وغيرهم من أعلامهم، حيث قرروا
التقليص من حصص اللغة العربية في السنوات الأخيرة وجعلوها اللغة
الثالثة بعد الكردية والإنجليزية، كما نقلت ذلك وكالات الأنباء، وأبرزته
جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم 27-3-1426هـ،
حيث صرح مدير أكبر ثانوية في (أربيل) شمال العراق واسمه (هيني قادر خضر)
بتصريح جاء فيه - كما نقلت الجريدة: إن الفرح يغمر طلاب مدرسته
وعددهم 1442 لأنهم حصَّلوا علومهم بالكردية، ولم يعودوا يعرفون
العربية، وإنهم قد قلَّصوا ساعات العربية إلى خمس ساعات في الأسبوع
بعد أن كانت تسعاً وثلاثين ساعة، فأصبحت اللغة الثالثة بعد الإنجليزية
التي خصصوا لها ست ساعات في الأسبوع.
أقول: حينما قرأت هذه القرارات الكردية في شأن لغة القرآن، وقرأت
في بعض صحفنا مقالات لبعض الأقلام، ومنها أقلام سعودية، كتبت
عن اللغة العربية متسائلة عن صحة فضلها على اللغات مشككة في ذلك،
تساءلتُ: يا ترى ما العلاقة بين هذه المواقف المتعددة من لغة القرآن الكريم،
وما العلاقة بين ذلك كلِّه وبين هذا الدعم غير المحدود إعلامياً وفضائياً
للهجات العامية في عالمنا العربي على حساب أفضل وأجمل وأكمل لغة؟.
وتساءلت: أيضاً: ما فائدة طرح مثل هذه الآراء والمواقف في هذه المرحلة
بالذات؟ وما حاجتنا إليها؟ وما ترتيبها في سلَّم (الأهمية) في قضايانا؟
أقول لكل من يُثير هذا الموضوع: الكاتبة الألمانية التي رحلت عن هذه الدنيا
قبل سنوات قلائل (آنا ماري شميل) تسلِّم عليكم وتقول لكم: تؤكد
كل الدراسات اللغوية الجادة الموضوعية أن اللغة العربية هي لغة الكمال الصوتي
وهي أثرى لغةٍ وأكملها.